الدين والديمقراطية

الدين والديمقراطية

 

 

الدين والديمقراطية

 

السيد مرتضى التونسي

باحث إسلامي تونسي

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

المقدمة البحث

من أهم ما يخالج عقل الانسان اليوم هو موقف الدين من معطيات الحدائة الغربية ونقول انسان اليوم سواء كان متدينا ام غيره اما بالنسبة للمتدين فمن الطبيعي ان ينطلق في حركاته وسكناته من دينه، بما في ذلك طريقة تعامله مع الحضارة الغربية ببريقها اللامع وان كان هناك قسم من المتديّنين يحاول التفاعل مع حضارة الغرب بحثا عن مخرج دنيوي بعدما ضمنوا الجانب الأخروي، اما غير المتدين فبلحاظ الازمة التي يعيشها الانسان اليوم في مجالات عدة واهمها على مستوى انانيته فهو متعطش للخلاص فاشرقت في ذهنه فكرة البحث والعودة للدين غير انه قبل جمع المسألة يبحث عن اجابات لأسئلة تملأ فكره حول الدين ومن أهم هذه الأسئلة استطاع موقف الدين من أسس الحضارة الغربية.

فنحن في هذا البحث واكبنا هذا الانسان وقدمنا له مقارنة ومقاربة بين الحضارة الاسلامية من خلال مشروعها الديني السياسي وبين الحضارة الغربية في اكبر تجلي لها من خلال المشروع الديمقراطي، حيث كان البحث مبنائياً بمعنى فتشنا من نقاط تقارب والتقاء وايضا عن جهات الابتعاد والتنافر بين الدين والديمقراطية فبحثنا ذلك في مسألة الخاتمية، الحرية، المجتمع المدني بلحاظ ذهنية مخاطب هذه الدراسة اولاً وبلحاظ اهم الاشكالات التي يوجهها الغرب للدين ثانياً وبلحاظ التفوق الغربي ثالثاً.

فكانت هذه الدراسة بهذا الشكل بين يدي القارئ الكريم ونسأله المعذرة في نقائصها ولطفه في توجيهنا.

والله المستعان.

 

البحث النظري التاريخي

 ان البحث في علاقة الدين بالديمقراطية لا يمكن أن يكون تاما إلا بالاستناد إلى ذكر تاريخي يختص بالقرون الوسطى التي مرت بها اروبا، فهذه المرحلة تعتبر الاساس والجذر لهذه المشكلة الذي نحاول فُك رموزها الآن اذ ان كل ما نشاهده اليوم من آراء حول علاقة الدين بالديمقراطية في الفكر الغربي ماهو في الحقيقة إلا ردة فعل تجاه واقع حكومة رجال الدين في مرحلة القرون الوسطى فكيف انطلقت جذور المسألة:

عرض تاريخي

كانت بدايات القرون الوسطى منذ اصدار امبراطور الروم الشرقية «جستنيان» أمره في عام 529م بإغلاق الجامعات وتعطيل المدارس في أثينا والاسكندرية ففر العلماء خوفاً على أرواحهم ولجأوا إلى مناطق أخرى، ومن الخصائص العامة لهذه المرحلة التي دخلتها أروبا هو تسلط الكنيسة على المراكز العلمية ومناهج المدارس والجامعات وبالتالي كان رجال الدين يفتحون المجال فقط للأفكار والعقائد التي تتلائم مع الأفكار المسيحية وكانوا يرفضون الأفكار المخالفة ويحاربونها بشدة الى درجة الإبادة الجماعية لأهل العلم والمتنورين من المفكرين حيث يروي التاريخ انشاء محاكم تفتيش العقائد والتي كانت مهمتها التحقيق والتأكد من سلامة الأفكار عند الرموز العلمية والسياسية وحتى عند العوام وضرب كل محاولة لزرع أفكار مضادة إذ ينقل قتل وإعدام قرابة ثلاثمائة ألف شخص برموز علمية كبيرة مثل غاليلي الإيطالي الذي أعدم بسبب اكتشافه حركة الأرض وهذا ماكان ينافي المباني المسيحية التي تعتمد على هيئة بطليموس القائلة بثبوت الأرض. وجرائم رجال الدين ضد المفكرين لا تحصى فقد كانت حالة ظلم واستبداد فكري وإرهاب ديني وسيف اجتماعي كبيرة من نوعها واستطاعت أن تجثم على المجتمع الأوروبي ما يقارب الألف سنة. كان في نهايتها ان استطاع الانسان الأروبي الانتفاضه ورفض الكنيسة وسلطتها الدينية والسياسية والاجتماعية وتبلور بالتالي موقف عام ضد الدين بصفة عامة وكان ذلك في عصر النهضة.

 

صورة الاشكال

فبعد هذا العرض التاريخي يمكن ان نفهم الاشكال كالآتي بأن الدين الممثل في رجال الكنيسة لا يمكن ان يتصدى لقيادة القمع لضعف ذاتي يعيشه الدين من غياب للبرنامج الحكومي السليم الى اعتماد الدين كلية على خرافات وأساطير لا تقوم الا بمصادرة حرية التفكير والحقوق السياسية فبناءً على هذا يكون التعارض والتضاد ذاتياً بين الدين والديمقراطية.

هذه صورة الاشكال بناءً على العرض التاريخي أما السؤال الذي يطرح نفسه كيف انتقلت هذه الاشكال إلى المجتمع الإسلامي:

في الإجابة نقسم الكلام الى مرحلتين: هل ان الازمة بين الدين والديمقراطية أو بين الحكومة الدينية والشعب لم تكن موجودة ثم انتقلت بعد القرون الوسطى؟ والمرحلة الثانية تبحث في كيفية دخول البحث للمجتمع الإسلامي بعد عصر النهضة. بالنسبة للسؤال الأول نقول إذا كنا نتحدث عن أزمة بين الحكومة الدينية والشعب فنقول ان الأزمة وبكل موضوعية قد انطلقت منذ وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله)ولعل ماتلى ذلك في فترة أخرى من حروب وسفك دماء إلاّ تعبير عن وجود أزمة مستفحلة فبهذا المعنى يمكن ان نقول ان مشكلة الدين مع حاكمية الشعب وقوميته ونتحاشى ذكر اصطلاح الديمقراطية  لعدم تحققه بعد. قديمة وعاشها صلب المجتمع الإسلامي ولكن في الجواب نقول في الحقيقة وبعد التدقيق في الأمر سنجد ان المشكلة وان كانت في الظاهر بين السلطة الدينية وبين الشعب المتدين ولكن في عمقها فهي مشكلة وجود تضارب بين قراءات متعددة لطبيعة الحكومة بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) واذا وصلنا في تشخيص المرض الى هنا فنقدم الحل على اساس دراسة هذه القراءات ومناقشتها وتقييمها فيكون للمسألة بحثا آخر غير بحثنا الآن، فالأزمة كانت موجودة غير أنها في جوهرها أمر وبحث داخل الدين والأفهام المختلفة حوله.

أما المرحلة الثانية من بحث الأزمة في المجتمع الإسلامي فنقول ان الحكومات التي تتالت على الأمة الإسلامية في فترة القرون الوسطى شهدت قفزات وكبوات وتطورات مختلفة ولكنها في مجملها لم تكن بالشدة والقساوة التي رأتها أروبا ولعل في أقل التقارير انه لم يلحظ في تاريخ المجتمع المسلم ردة فعل عنيفة ضد حاكمية الدين وضعف الدين في هذا الجانب بل العكس هو الذي كان ثابتاً اذ أن حركات الإصلاح والتغيير التي شهدها تاريخ المجتمع الإسلامي كانت تنطلق من الدين وتركز مؤاخذتها على أبتعاد الحكومات عن الدين وليس على تمسك الحكومات بالدين كما كان الأمر في القرون الوسطى وهذا يرجع الى الاختلاف بين طبيعة الدين ومابين اهل العلم والفضل في خصوص الاسلام عند مقارنته بطبيعة الدين المسيحي فنستخلص نتيجة أخرى أن الدين الإسلامي لم يشكل أزمة في مجتمعاتنا وهنا نعبر للقول بأن ملاحظة مثل هذه الإشكالات في مجتمعنا المسلم ماهو إلا استيراد لمشاكل غيرنا، اذا فالبحث برمته في العالم الإسلامي هو أمر مستورد وليست لنا به أي علاقة إلا ما حاول بعضهم فرضه علينا، وكمثال على ذلك نذكر النهضة الأولى التي انطلقت في العالم العربي في القرن التاسع عشر والتي حاولت ان تقدم مبادئ الحداثة التي سادت أوربا حينها إلى العالم العربي الإسلامي فطرحوا مسألة الحريات وبذروا بذور أصالة الإنسان ولان باعتبار ان الفضاء العام للمجتمع الاسلامي آنذاك لم يتجاوب مع هؤلاء فقد باءت نهضتهم بالفشل ونذكر من رموزهم خير الدين باشا في شمال افريقيا ثم تلاه المنفلوطي في مصر وهكذا. ولكن بقايا تحركهم في ذهنية المجتمع مسألة عدم تلائم الدين مع معطيات الحداثة الغربية بما تحمله من زخم مادي وصناعي كبير ومن بين هذا التعاند والتنافر تعاند الدين مع معطيات الحياة السياسية والديمقراطية في أروبا وهكذا كانت بدايات تقرب هذا الاشكال للمجتمع الإسلامي.

 النتائج

وبعد هذا العرض التاريخي نصل الى نقطتين مهمتين يجب ان نحتفظ بها اثناء مطالعة البحث:

* ان مشكلة الدين ومفاهيم الحياة من سياسة وغيرها نشأت في ظروف أروبية بحته وخارج مجتمعنا الإسلامي فلا نتحمّل نحن مسؤوليتها التاريخية .

* ان تعميم واقع الديانة المسيحية على باقي الديانات هو خلط منهجي وقد يكون متعمداً في أكثر الحالات فنرجو الانتباه والتأكيد على ان الاسلام لا يتحمل أخطاء المسيحية.

الحاكمية بين الدين والديمقراطية

 

يستفاد من الحاكمية مما في ملاك مشروعية النظام في سلطاته الثلاث فالحاكمية تعني المرجع الذي من خلاله تحدث وتبقى الأنظمة، وهو الذي يحدد طبيعة النظام أكثر فمثله نقول أن الحاكمية في النظام الفلاني مصدرها الانسان بمعنى ان الانسان في هذا النظام هو صاحب القول الفصل حول أي طرح كان او نقول ان مشروعية وحاكمية النظام الفلاني هي للغيب بمعنى ان الغيب هو المعدّد للتشريعات والقوانين والحكومات وما الى ذلك وبعد هذا التعريف نصل لعرض بعض آراء اهل الفن في تصويرهم للحاكمية.

آراء مختلفة في المسألة:

* الكنيسة رجال الدين المسيحي وتبعاً للخلفية العقائدية التي ينطلقون منها يؤمنون بأن الحاكمية هي للرب وحده ولا يحق لغيره الجلوس في هذا المنصب فمشروعية الحكومة عندهم تستقر من حاكمية الله تعالى.

* توماس هابز: فيلسوف بريطاني عاش أواخر القرن السادس عشر يرى ابتناء الحاكمية على القوة فمن استعلى على غيره بفعل القوة فقد تمكن من حق الحاكمية ولا يحق لغيره منازعته ان أوتي له ذلك.

* جو جاك روسو مفكر وفيلسوف فرنسي عاش أواخر القرن الثاني عشر وما وقع فيه من أحداث وتفاعلات أدت الى اندلاع الثورة الفرنسية رفض روسو ان يعطي ويمنع ويمنح الشعب حق الحياة وحق تقرير المصير وحق الإختيار من أمل سواء كان غيبا ام متسلطاً بالقوة.

وإنما آمن بحق الشعب في آختيار مصيره وكيفية مسيره وذلك ضمن نظريته المعروفة بنظرية العقد الأجتماعي Le ealar sariale حيث تتحقق الحاكمية لأغلبية الناس وأكثرية الشعب.

محصل القول بعد هذا العرض السريع والمقتضب لآراء بعض أهل الفن نجد ان مسألة الحاكمية تدور بين ان تكون حق للغيب، للرب، لمافوق الانسان وبين أن تكون الحاكمية حق للإنسان سواء افتك الانسان هذا الحق بالقوة ام انه استلمه بعد موافقة غيره عليه وفي كلمة واحدة إن الحاكمية اما ان تكون حق مسلّم للّه تعالى أو هي حق للانسان.

الحاكمية في النصوص الدينية

الملاحظ عند التأمل في المتون والنصوص الدينية آنهاتحمل ازدواجية في التعامل مع موضوع الحاكمية فهناك بعض النصوص التي تصب الحاكمية المطلقة لله تعالى ونصوص أخرى تعطي وتهب مسألة الحاكمية للانسان وهنا يطرح سؤال: هل ان هذه الإزدواجية الموجودة في المتون الدينية تعني عدم هضم الدين للموضوع وبالتالي كانت نصوصه تعيش التخبط في تحديدها؟ أم هو طريق ثالث وبديل ورأي آخر يضيفه الدين ويستدل عليه إلى جانب الآراء الأخرى التي عرضت آنفا؟

وهنا نؤجل الاجابة عن هذا السؤال الى ما بعد عرض بعض المتون الدينية في مسألة الحاكمية وقد اعتمدنا هنا على كلمات علي بن أبي طالب(عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر لما ولاه مصر بأعتبار أن هذا العهد يحمل مشروعا سياسيا كاملا إضافة للخطب الآخرى السياسية المذكورة في كتاب نهج البلاغة.

* حاكمية الله: نستشف من كلام الأمير (عليه السلام) ان الحاكمية هي حق مطلق للّه تعالى اذ يقول «إنه ليس على الإمام الا ما حمل من أمر ربّه»([1]).

فهنا يجعل الحاكم تابعا لإرادة الله المطلقة فليس له ان يضيف أو ينقص من أوامره ونواهيه سبحانه، او يقول في معرض حديثه عن حوادث التحكيم بأن المرجع والفصل ليس هو الشخص وماوراءه من جهات تدعمه بل المرجع والفصل هو الحكم الالهي مطلقا «انا لم نحكم الرجال وإنما حكمنا القرآن»([2])، أو «فإنما حكم الحكمان ليحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما امات القرآن وإحياؤه الأجتماع عليه واماتته والافتراق عنه فإن جرّنا القرآن إليهم اتبعناهم وان جرهم إلينا اتبعونا»([3]).

اذن المرجعية العليا والفاصلة في كل المسائل ومختلف الأمور والمراحل هو اللّه تعالى وحده من خلال كلامه فالحاكمية بالأصالة هي للحق جل وعلا وكل رأي او نظر او فكر يقابل صريح الارادة الالهية ونص كلامه الكريم فهو رأي مردود ولا اعتبار له أياً كان مصدره .

حاكمية الأمة والشعب: يمكن أن نستظهر أهمية حضور الأمة والادلاء برأيها من خلال جهات متعددة تضمنتها كلمات الأمير(عليه السلام) في نهج البلاغة، فمن ناحية التعامل مع الحكومة يقول «فإنه من استثقل الحق أن يقال له او العدل ان يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه فلا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل». وهنا أمر صريح للأمة ان تسعى لإعطاء رأيها وابداء وجهة نظرها ومن جهة اخرى يوصي الأمير ولاته. انما عمود الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة فليكن صفوك لهم وميلك معهم»([4])، فهذه الكلمات تجعل عامة الأمة والرأي العام للشعب هو عمود الدين بمعنى ان أساس حركة المجتمع والدين في حياة الانسان مرجعها المهم والوحيد هو الانسان والشعب، فإذا كانت الأمة تمتلك هذا الحق الريادي في تسيير أمور الدنيا والدين فلذلك اذا نجد ان الأمير يحدد موقف القيادة وطريقة تعاملها مع الشعب «فليكن صفوك لهم وميلك معهم» وهذا الكلام مترتب على الكلام السابق يعني ان الحكومة ملزمة بتبعية الشعب والامة. «وليكن احب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمها في العدل وأجمعها لرضى الرعية»([5]).

فهذه المتون الدينية وطريقة جمعها لحاكمية الله تعالى وحاكمية الانسان فهل يمكن لنا الآن ان نجمع بينهما او لابد من الاختصار على أحد الطرفين؟ وإجابة لهذه الأسئلة وما سبقها من استفهامات نقدم مايلي:

 

المنطلقات الكلامية للجمع بين حاكميتي الله والانسان

ان الحاكمية التي نسبتها النصوص الدينية للانسان والامة - الشعب - بلحاظ كمالات الانسان وعقله وحقوقه الطبيعية وحاجاته الفطرية مما لا يمكن انكاره وايضا ومن ناحية اخرى ثبت في محلّه ان هذا الانسان رغم كل تلك الكمالات الا انه احتاج للنبوة في تاريخه لقصور عقله ونقص علمه وبهذا اللحاظ تنسب المتون الدينية الحاكمية لله تعالى.

وهكذا يمكن أن  نفهم تعدد الحاكميات في نهج البلاغة ان حاكمية الله المطلقة بلحاظ النقص الانساني وحاكمية الانسان بلحاظ كمالاته. ودفعا لما يمكن ان يرد من التباس نقدم ركائز الجانب العملي للجمع بين الحاكميات .

 الجمع بين الحاكميات في الدين

إن مدار الحديث هنا هل للانسان بوعيه القدرة على تسير اموره بمفرده  ام لا؟

نحن مع ختم النبوة وانقطاع الإمامة ظاهرا على الأقل يشعرنا بأن  الله تعالى قد وجد جانبا آخر لحماية الانسان من نقصه ألا وهو الرشد الإنساني فإن الرشد وصل إلى مرحلة من التعالي بحيث انقطعت الحاجة إلى إرسال النبوات وثبت بطريق الكمال بحيث يمكنه الاستفادة مما ارساه نظام الإمامة، ففي هذه الأجواء نرى إمكانية انطلاق الرشد الانساني في قيادة الإنسان إلى شاطئ الأمان.

إن غياب النص الديني والحكم الشرعي لا يعني بحال من الأحوال تراجع الدين عن القيام بدوره بل هذا يعني ان الموقف الديني عند غياب الحكم والنص الشرعيين يتمظهر في الفعل الانساني الراشد لإيقان الدين بان الانسان الراشد يعبر عن موقف دينى سليم فوجود ساحة الفراغ من بعض الأحكام الشرعية يعني ايتاح فرصاً اكبر للرشد الانساني في كل المجالات بما في ذلك مسألة منع شرعية هذه الدولة دون تلك او حق انتخاب هذا المشروع من ذلك.

 النتيجة

ان الدين والديمقراطية في مسألة الحاكمية يمكن الجمع بينهما ويمكن ان يتفقا شريطة أن نفهم معنى الحاكمية في الديمقراطية انما تختص بالمجالات التي لم يوجد فيها نص ديني واضح وانما الجمع بينهما في منطقة الفراغ هذه حيث يتفق كل من الدين والديمقراطية بسلامة الموقف الإنساني الراشد ولكن فيما عدا ذلك أي في الأمور والموارد التي يوجد فيها نص شرعي واضح لا يمكن للإنسان أن يتدخل ويعطي رأيه هناك. والملاحظة الاجمالية هنا ان التنسيق بين مفاهيم الدين ومفردات الديمقراطية لا يعيش في مسألة الحاكمية توترات بقية المحاور، الحرية، المجتمع المدني.

الحرية بين الدين والديمقراطية

نأتي الآن الى ركن ثاني وزاوية اخرى يقوم عليها بحث العلاقة ونوعية الموقف المتبادل بين الدين والديمقراطية ألا وهي مسألة الحرية وسنوزع الدراسة هنا الى ثلاث مستويات: بحث في المفهوم والاصطلاح، وبحث في الموقع والدول وبحث في القواعد والخاصيات.

مفهوم الحرية تبدأ أزمة الحرية من تعريفها حيث تضارب الأقوال واختلاف الآراء، فالحرية التي هي مورد البحث تشترك لفظات مع الحرية في الفلسفة التي تبحث حول الإرادة والأختيار التكويني للإنسان وان سعى بعضهم الى جعل هذا الجانب تعبيرا للموقف الديني بالإضافة الى المعاني العرفانية الأخلاقية وما تعنيه الحرية هناك من حالة التحرّر والتجرّد من الغرائز والشهوات واللذات غير ان حقيقة البحث ان كل هذه المعاني هي خارج البحث فالذي يهمنا هنا هو الحرية في المجال الحقوقي والسياسي. وفيما يخص هذا المجال ايضا أحصي للحرية قرابة المائتي تعريف، الشيء الذي جعل مونتسكيو يذهب الى نفي تعريف واضح المعالم للحرية ومع الوصف يمكن ان نرى تصنيفاً عاماً غريباً لتعريف الحرية نلاحظه في تعريف هابز الذي فسّر الحرية بأنها غياب المانع، يعنى ان الغرب ارجع الحرية لمعنى سلبيا هو أنتفاء المانع أو القيد أو الضغط، فحسب نظرة هؤلاء أن صرف رفع القيود بوجوه الأشخاص يحقق حريتهم، وقد نستشكل على هذه الرؤية للحرية بقولنا انه في العديد من الحالات قد نجد القيود والفرائض والموانع مرتفعه أمام الفرد لكنه رغم ذلك لايجد حريته التامة في الانطلاق أو التحرك أو حتى أخذ الموقف، كما في الفقير مثلا، فهذا الفقير بفقدانه المال يفقد عمليا مساحة هامة من حريّته فهل يمكن للغرب ان يقف بشجاعة ويعلن ان هذا الفقير هو مسلوب الحريّة ؟ نجيب ان الغرب وحضارته لا يقدران على مثل هذا الاعتراف لأن الدورة الاقتصادية لديه تفرض وجود الفقراء والمحتاجين ومن له حرية محدودة يعجز فيها عن منافسة غيره، فطبيعة وتركيبة الحضارة الغربية الحديثة تقوم على ذلك وانسجاما مع هذا النظام لابد ان يعترفوا بمفهوم للحرية لا يزعجهم ويربك قواعد نظامهم فقاموا وأعلنوا ان الحرية تعني انتفاء القيود وارتفاع الموانع والضغوط في حين ان المناقشة توحي بأن يكون للحرية تعريف أوسع أشمل، وقد نجد ذلك في الحضارة الاسلامية إذ قدم النص الديني في أحد لوازمه تعريفا للحريّة قد يكون شاملا لموارد أكثر، يقول على بن أبى طالب(عليه السلام)مخاطبا من فقد حريته: «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً» هنا يضع علي بن أبى طالب(عليه السلام) تقابلا وتضاداً بين حرية الانسان وعبادته لغيره بمعنى ان الحرية هنا تجد معناها في فضاء متكامل ينتفي فيه انقياد الانسان لغيره سواء كان ذلك مباشرة بأنتفاء القيود، أو بشكل غير مباشر برفض كل نظام وفضاء فكري يفقد الانسان بعض حريته حتى مع انتفاء القيود، فمحصل الكلام في تعريف الدين للحرية يرى أنها تتحقق لزوما بتحقق عبودية الله وحده فالحرية - مع ملاحظة صعوبة التعريف - تعني في القاموس الديني رفض كل العبوديات والانصياع لعبودية الله الواحد القهار ويخالجناهنا نفس السؤال: ما أدرانا بأن عبودية الله تعنى الحرية؟ أوليست هي نافية لحرية الانسان؟ وهنا نحيل القارئ الكريم إلى ابحاث عقلية اخرى في مجال علم الكلام وأصول الدين حول أبواب العناصر العقلية الموجبة للعبودية للّه وهنا نؤكد ان تفسير الحرية بأنها من لوازم عبادة اللّه ليس هو شعاراً كلياً بل يعني أن الحرية في المنظور الإسلامي تجد معناها داخل التشريع الإلهي الكامل المتكامل القائم على ركيزتي النقل والعقل، فأتباع أي تشريع آخر يعني انتفاء الحرية بأي حال من الأحوال وأما هل ان من لوازم اتباع هذا التشريع الالهي تحقق الحرية أولا؟ فنترك الجواب الى النقطة الأخيرة في بحث الحرية - القواعد والخاصيات.

الحرية بحث في الموقع والدور يمكن ان يكون بحث حدود الحريّة وكيفية إعمالها وقواعدها وما تختص به لدى كلا المدرستين هو الموضوع الاساس في بحث الحرية لكن رغم ذلك نحن نحتاج لفهم طبيعة الحريّة وموقعها داخل النظامين - الديني، الديمقراطي - وما تمثله من قيمة لدى الانسان والدين إذ يمثل هذا البحث الثاني منطلق تشخيص القواعد العامة للحرية - البحث الثالث - وهنا سنوزع الاسطر التالية من خلال هذه الأسئلة هل الحرية وسيلة؟ ام غاية؟ ام كليهما؟ هل الحرية حق أم تكليف؟ أم كليهما؟ هل الحرية قيمة على طريق الانسانية ام هي كل القيم؟

أولاً: في خصوص مجموع الأسئلة الأولى التي تدور حول آلية الحرية وغائيتها نلاحظ ان الدين بوضعه هدفاً سامياً للانسان ويعبر عنه بالكمال يعتبر سائر القيم وسائل تحرّكه لذلك الهدف الأسمى ومن بينها مفهوم الحرية فالحرية هي مجال انطلاق الانسان وحيويته واتباعه للشرع الأقوم وتخليه عن عبادة غير الله الواحد وهي صراط مستقيم يعبره الانسان نحو كماله المطلق بينما في الديمقراطية كمظهر راق للحضارة الغربية تكون الحرية الانسانية هدفا في حد ذاته، وهذا قد يكون اتضح لنا بنحو أو بآخر في البحث التاريخي حيث كانت حالة تسلط الكنيسة وقمعها ومحاربتها للانسان في ذاته وحريته وفكره قد ولدت ردة فعل على الاوروبي جعلت مطلبه الأساس تحقيق حريته وتخلّصه من قيود رجال الدين الكنسي فأصبح لهذا المطلب بعد اندحار الكنيسة من الأهمية والقيمة ما جعله مطلبا خالدا مع خلود الانسان، فهذا الموقف التاريخي صاغ الحرية المطلقة كهدفا أساسيا يسعى إليه الإنسان، وهذا الاختلاف بين الدين والديمقراطية سيضفي بظلاله في تشخيص حدود الحرية وكيفية تعامل الانسان معها فإذا كانت هدفا رئيسيا فكل ماعداها يهدف لأجلها حتى الانسانية واذا كانت وسيلة فالهدف احق بالتضحية وهو الذي يشخص الظوابط والمعالم العامة للحرية الموصلة إليه.

ثانياً: أما هل ان الحرية حق ام تكليف فباستصحاب اجواء النقطة السالفة وبالاعتماد على المتون الدينية والحالة التاريخية نخلص إلى ان الحرية داخل الحضارة الغربية هي حق لكل مواطن ولا يمكن لأي جهة كانت دولة أم كنيسة أم غيرهما أن يصادروا هذا الحق الانساني بل لابد ان تكون جميع الجهات على مسير تحقيق وتوفير الحرية لكل فرد مهما كلفها ذلك وان كانت تلازم هذا الحق بعض التكاليف فهي تكون في مرتبة ثانية أما الدين فإنه يرى ان الحرية حق يفرض تكليفا في نفس الوقت فهي حق لا يمكن تجاوزه سواء من قبل الفرد أو الحكومة او حتى العلماء وانما في نفس الوقت فهذا الحق يفرض تكليفا سواء تجاه بقية الأفراد فليس له ان يستغل حريته لمزاحمة حرية غير فيكون تعدّياً بغير حق وكذلك تجاه الحرية ذاتها فلابد ان يستفيد منها بقدر طاقتة وادارته لتوصله إلى الهدف المنشود - الكامل الانساني - والفرق هنا واضح بين الدين والحضارة الغربية فهي حق ينتج تكليفا مساويا في الدين وهي حق مطلوب لذاته في الديمقراطية كمظهر للحضارة الغربية.

ثالثاً: من جهة ثالثة نحن نلاحظ ان الحرية في الإطار الديني مفهوم لا يتم له معنى إلا باستكمال جميع مفردات هذا الاطار الذي تتحرك داخله الحرية فكمثال لا يمكن ان نعزل الحرية عن مفهوم المسؤولية التي يفرضها الدين داخل عناوين اقامة الواجبات والفرائض وكذلك لايمكن ان نفهم الحرية بعيداً عن الرشد فالذي لم يبلغ حد الرشد او كان فاقدا له بنحو او بآخر لا يتمتع بحريته كاملة كما نرى ذلك في بعض الفئات التي يمنعها الدين من التصرف في أموالها بأعتبار فقدانهم للرشد فانتفاء الحرية هنا نتيجة لانتفاء الرشد وغيرها من الأمثلة كثيرة التي تثبت تلازم الحرية مع جملة من المفاهيم الأخرى، فالدين يرى عنصر الحرية عنصراً متحرّكا مرتبطا مع بقية العناصر والمفردات ليكون نسيجاً واحدا في الأخير وعلى خلاف ذلك في النظام الديمقراطي فإنه ينظر للحرية بمالها من قيمة بمفردها من ذاتها بقطع النظر عن أي مفهوم آخر فالحرية حق وغاية - كما مر - يجب ان تتحقق لأي مواطن أو مجموعة ولا يتوقف في ثبوتها على أي معنى آخر. فهذا إذا وجه ثالث شخص ملامح الحرية في كلا النظامين ويبين جوانب اتحادهما واختلافهما في هذه الملامح عامة.

الحرية بحث في القواعد والخاصيات أما بالنسبة لبحث القواعد والخاصيات فنلاحظ التقاء الدين والديمقراطية في مسألة نفي الحرية المطلقة وان كان لكل منهما دافع لذلك الا أنهما يشتركان ويؤكدان على ان الحرية لايمكن ان تكون بأي حال من الأحوال مطلقة ومفتوحة وبدون أي قيد بحيث يكون الفرد أو المجموعة مطلق العنان في أفعاله وحركاته، ويرى هابز ان فتح المجال للحرية المطلقة سيؤدي حتما للفوضى ونوعا من العبثية لذلك وضع الفكر الغربي حدوداً ليقيد بها نوعاما من حركات الانسان وافعاله فنقل عن مونتسكيو تحديده للحرية بأنها تنتهي عند بداية حرية الآخرين وبالتالي لا يمكن فسح المجال للإضرار بالآخرين عن طريق الحرية المطلقة وهذا ماحاول جان استوارت ميل وجان لاك إثباته وترسيخه في أبحاثهم السياسية وكمثال آخر حي وواقعي ننقل محاولة الدول الأوربية في سنة 1950 تقييد الحرية المذكورة في المواد الثامن عشر والتاسع عشر من الإعلان العالمي لحقوق الانسان فغيروا المادة كالتالي:

حرية البيان والدعوة إلى الأفكار والعقائد موجودة مادامت لا تضر بالأمن القومي والأخلاق العامة.

فملاحظ ان الحرية المطلقة والمفتوحة أمر مرفوض في حد ذاته في الفكر الديمقراطي الغربي وكذلك الأمر بالنسبة للدين فقد يكون ما نستنتجه من تعريف الحرية في الدين بأنها من لوازم عبودية الله تعالى تعطينا الحدود العامة للحرية وهي عدم إمكانية الخروج عما رسمه الدين من قوانين وخطوط حمراء.

هذا كان وجه للاتفاق بين قواعد الحرية في الديمقراطية وقواعدها في الدين ولكن الاختلاف ثابت على أشده اذا ننقل البحث من إطاره الاجتماعي إلى الإطار الفردي الخاص فهنا لا يمكن للديمقراطية ان تقيد تصرفات الفرد لأنها طرحت ايجاد الفرد للغير كحد للحرية وفي هذه النقطة لا وجود لغير يلحقه الفرد فتنتفي بذلك القيود وتثبت لزوما الحرية المطلقة، فالقواعد القانونية الغربية ليس فقط لايمكن ان تحد الفرد في تصرفاته الخاصة بل في الأصل هي وجدت للحفاظ على حريته بالاساس ولكن في الإطار الاجتماعي يتدخل الإضرار بالغير كقيد ولكن هنا يرجع الأصل والأساس وهو إطلاق الحرية غير ان هذا الأمر بعينه مرفوض في الدين ومحارب من قبله فبناءاً على ما سبق من رؤية الدين للحرية بأنها وسيلة لا غاية وأنها تجد معناها داخل التركيبة العامة للفكر الديني، وان الحرية وسيلة للوصول للكمال فالدين اذاًيمكن له ان يتدخل في الإطار الخاص ويحدد للفرد مجال حريته حفاظا على ثباته في طريق الكمال وهذا واضح في المتون الدينية التي تأمر وتنهى الإنسان في خلواته والأمثلة في ذلك غير قابلة للحصر وهنا تجدر الاشارة إلى أن البعض يتخذ هذا المورد ليشكل من خلاله على مسألة الحرية في الدين. بأن الدين يقف امام فطرة الانسان وميوله فهو ليس جدير برسم سعادة الانسان، ولكن الواقع غير ذلك والجواب يتطلب استيعابا شاملا لعدة جوانب اخرى وما يمكن قوله ان وضع الانسان على طريق كماله يحتاج للخروج به من مجموعة من تزاحمات هذه النشأة وهذا العالم ومن بينها تضارب الميول الإنسانية والفطرية وهنا يتدخل الدين ليرفع هذا التزاحم فيجمد البعض ويطلق الآخر حفاظاً على البناء السليم للذات الانسانية فإذا وجدنا الدين يمنع حرية تحرك بعض الميول فإنه ولا شك يتناغم وينسجم مع ميول أخرى لتكون النتيجة في الأخير هي الكمال الانساني.

فمحصل البحث في هذه النقطة ان طريقة تعامل الدين مع الحرية وان كانت تماثل الطريقة الديمقراطية من جهات فإنها تختلف عنها في جهات أخرى بحيث لا يمكن ان يوجد تطابق ومحاور تلفيق تامة بين المدرستين.

النتيجة

والنتجية الكلية لبحث الحرية تؤكد انه رغم التقارب والالتقاء في عدة مفردات في مسألة الحرية غير ان امكانية الجمع بين الدين والديمقراطية هنا قد تكون مفقودة فيبقى للدين اسلوبه ونظامه وكذلك للديمقراطية، ولكن لا بأس بالإشارة إلى انه في الموارد التي لا يمكن فيها الالتقاء قد تتدخل عناصر خارجية واجنبية تفرض ذلك فتكون بمثابة الضرورة الواقعية التي لا يمكن تجاوزها إلا بالتخلي عن بعض متاعنا وألا نتراجع تماما فالحكمة تقضي هنا نوعا من التأني وعدم الاستعجال في الحركة وسيأتي قريبا بعض التفصيل في هذه المسألة بخصوصها..

المجتمع المدني بين الدين والديمقراطية

 ذكرنا فيما سبق ان البحث في علاقة الدين بالديمقراطية يعني استخلاص الموقف الديني تجاه مفردات ومفاهيم وعناصر تشكيل الديمقراطية وبعد بحث مسألتي الحرية والحاكمية نأتي إلى فكرة ممارسة الديمقراطية داخل المجتمع من خلال هيكل ونظام صاغه المشروع الديمقراطي في تاريخه لتفعيل الديمقراطية ألا وهو فكرة المجتمع المدني، فالمجتمع المدني قبل أن يكون مبادئ وقواعد ومباني هو في الأساس هيكل لأحتضان فكرة العمل الديمقراطي ومن هنا أضيف إلى هذا الهيكل مضموناً ومحتوى مشخص جعل منه عنصراً إلى جانب عناصر ومفردات المشروع والفعل الديمقراطي وبحث علاقته بالدين هنا يفتح لنا صفحة أخرى من المواقف الدينية تجاه الديمقراطية.

الدين والمجتمع المدني

تعريف المجتمع المدني

لدرك معنى ومفهوم المجتمع المدني نحتاج إلى التدقيق أكثر في معاني كل من المجتمع والمدنية، وان كان مفهوم المجتمع ليس غائباً على الأذهان، على الأقل فإنه ليس كذلك بالنسبة لمفهوم المدنية. فالمدنية نعني بها وصول الانسان لمرحلة يمكن ان يتعايش فيها مع غيره من بني الانسان بما هو انسان بقطع النظر عن انتماءاته الطبيعية الجزئية الأخرى سواء كانا ينتميان الى نفس القبيلة، الجنس، الدولة.. أم لا. فهذا مجمل معنى المدنية في الاحكام ومنه استوصى الفيلسوف الانكليزي توماس هابز تعريفا للمجتمع المدني وضعه في قبال المجتمع الطبيعي بمعنى اجتماع الانسان مع غيره على اثر امر اخطرّهما للاجتماع كالقبلية، الاسرة، الجنس الواحد.. بينما المجتمع المدني على حسب تعريف هابز فهو الحالة المقابلة لهذا الوضع الطبيعي تعني أن الإنسان باختياره يبغي الإجتماع مع غيره، وإضافة إلى هذا القالب الخالي في تعريف المجتمع المدني انطلق هابز ليعطي لونا قيميا للمجتمع المدني يقوم في اساسه على المفاهيم العلمانية التي سادت مرحلة النهضة الأوروبية في القرن السابع عشر وبها تأثر هابز في تعريفه للمجتمع المدني.

الجذور التاريخية للمجتمع المدني

ان فكرة المجتمع المدني يجب البحث عن بداياتها في اوائل عصر النهضة بعد اندحار الكنيسة بقرونها الوسطى فقد حاول الفكر الأوروبي في تلك اللحظات ان يبني مشروعاً سياسياً يغاير بالتمام ماكان سائداً في القرون الوسطى ولفهم فكرة المجتمع المدني أكثر نشير إلى أن القرون الوسطى تميّزت بسيطرة مطلقة وحازمة لرجال الكنيسة في جميع المجالات فكان ان تؤول هذه الفترة التي دامت قرابة الألف سنة إلى رفض الدين عامة وحصره في النطاق الفردي الخاص وبناء نظام يرفع الحواجز ويهب الحرّيات فتشكلت أولى بذور المشروع الديمقراطي وحضر المجتمع المدني في البين وبالموازاة لتقدم العمران والمدنية والنهضة الصناعية وما ادّى ذلك إلى تطور وتغير في الأنظمة الأقتصادية  بحيث طرح المجتمع المدني في خضم ذلك كشكل راقي للمجتمع الانساني تسوده مفاهيم الديمقراطية الناشئة في تلك الفترة. ومع ظهور الفيلسوف الألماني هيغل شهد مفهوم المجتمع المدني تغييراً في قاموس الفلسفة السياسية فأصبح يعني بمسألة حماية الشعب من تجاوزات الدولة فهو في الأخير ليس نظاما حكوميا وانما هو أداة يمتلكها الانسان لتفعيل الديمقراطية في حياته وفي تفاعله مع الدولة وبالتالي فهو نظام وسطي بين الشعب والحكومة وبهذا المعنى الهيغلي للمجتمع المدني سننطلق في الدراسة هنا مع الملاحظة ان هذا هو المعنى الذي استقر عليه اهل الفن في الفلسفة السياسية إلى زماننا هذا.

خصوصيات وقواعد المجتمع المدني

بملاحظة التعريف السالف الذكر للمجتمع المدني بما هو حائل ومانع لتسلط الدولة على الشعب يمكن ان نستخلص جملة من الملاحظات في خصوص قواعد المجتمع المدني فلابد ان يكون هذا الحائل مؤمنا للشعب بالمساهمة في صنع القرار والاقتراح على الدولة ومعارضتها وهذا يعني وجود مظاهر البرلمان وتعدّد الأحزاب والجمعيات وما إلى ذلك من القنوات التي تسمح للشعب بالسيطرة على توجهات الدولة وتوجيهها بغية مايريد المواطن، واذا أضفنا هذه القنوات تحت عنوان جامع شامل لقلنا ان المجتمع المدني يقوم على فكرتي التعددية والبرلمان; التعددية في مجالاتها المختلفة وأشكالها وأساليبها المتنوعة والبرلمان بماهو جهاز يمكن ان يتحكم مباشرة بقرار الدولة والسيطرة عليه وكلا هذان الامران يشكلان الحزام الأمني الذي يقي الشعب من الدولة:

- التعددية: التعددية في البحث الفلسفي لها مجموعة من المعاني والذي يرتبط بموضوع الدراسة هنا هو القول بأن التعددية تعني الإقرار بحق جميع الآراء في التعايش والطرح فلا يوجد رأي أفضل من رأي ولا رأي احق من رأى بل الجميع متساوون في الحقانية والصدق والأولوية وإنما الترجيح يكون بأمر خارج أختاره النظام الديمقراطي ان يكون جمع الموالين والمعتقدين بهذه الفكرة أو تلك. هو المميز والمشخص لهذه الفكرة التي تريد أن تتقدّم على غيرها. والتعددّية تظلّل الثقافة كما هي حاضرة في السياسة، فأختلاف الآراء الفكرية والثقافية يشهد تعددية في المجتمع المدني كما تتجلى التعددية السياسية في مسألة تعدد الأحزاب والجمعيات والنقابات فحق الجميع ان يحضر وان يدعو لنفسه ومن كان حجمه وثقله اكبر داخل المجتمع فهو السابق والمتقدم.

وللتعددية معاني أخرى لا ترتبط ببحثنا والمهم أنها كفكرة فلسفية شهدت تكاملها في زماننا على يد الأمريكي جان هيك في كتابه فلسفة الدين.

- البرلمان: يعتبر البرلمان هو نقطة نهاية العمل الحزبي، فالحزب او الجمعية يسعيان لكسب الآراء غاية الدخول للبرلمان ومن هناك يتعاملان مستقيما مع الدولة فيكون البرلمان بناءً على هذا هو مصدر القوانين ومعين الحكومات والمشخص لحالة المجتمع والدولة، والبرلمان بدوره شهد تدرجاً في تاريخه ليصل الى حالة كماله كما يراها ففي البداية كان الانتخاب مقتصراً على الفئة البورجوازية للمجتمع بأعتبار ان عجلة الاقتصاد والسياسة بأيديهم فلا دخل لغيرهم فيما لا يفيدهم فكان الأمر كذلك إلى بدايات القرن التاسع عشر حيث عمّم حق الانتخاب لجميع ابناء الشعب الذكور ثم تحرك الجانب الأنثوي وطالب بحقه في الانتخاب إلى ان استقر الأمر في القرن العشرين في عهد مابين الحربين على منح المرآة حق التصويت وهكذا يعتبر البرلمان المفردة الحاسمة للمجتمع المدني وان كان بالنظر للواقع متأخر على نشاط الأحزاب والجمعيات وإعمال التعدّدية.

الدين والمجتمع المدني

والآن نصل إلى بيت القصيد في هذا القسم وهو محاولة استجلاء نظرة الدين لمرتكزات ومنطلقات المجتمع المدني ونريد في البدء أن نعرف موقف الدين من روح المجتمع المدني عامة بما يعنيه من رقابة شعبية للحد من سلطة الدولة ولحماية الشعب من انزلاقات الدولة فما هو موقف الدين في هذه النقطة أولاً؟ اتفق المسلمون جميعا ان في حالة غياب الشخص المعيّن من قبل اللّه تعالى لإدارة امور الأمة فالحاكم والشعب في تلك الحالة ملزمين باستعمال الشورى في إدارة شؤون الدولة والرعية والإختلاف بينهم (المسلمون) ان السنّة يقولون بإلزامية الشورى منذ وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله) والشيعة يقولون بإلزامية الشورى منذ غياب الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر(عج). ومعلوم أن الشورى تعني تشكل الرقابة الشعبية على السلطة فالدين في الاساس لا يعارض وجود الرقابة الشعبية على السلطة بل يؤكد عليها ويؤيدها والنصوص الدينية شاهدة على ذلك. واضافة إلى مسألة الشورى توجد مفاهيم اخرى أقرها الدين لإعمال رقابة الشعب على السلطة مثل مسألة الأمر بالخروج على السلطان الجائر وهذا يمثل ورقة ضغط مرفوعة في وجه الحاكم تهدده أينما حل وايضا مسألة النصيحة لأئمة الدين وهم الحكام ووجود فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذه، كلّها مفردات دينية لإعمال الرقابة والحد من تسلط الدولة.

وبعد ان رأينا الالتقاء بين الدين والمجتمع المدني في الأساس الذي وضعه هيغل للمجتمع المدني بأعتباره حائل بين الشعب والدولة للحد من تسلط الدولة على الشعب، نأتي ونرى العلاقة بينهما في باقي فصول المجتمع المدني:

- التعدّدية: إن إلقاء نظرة سطحية على كل من الدين والتعدّدية يومي بوجود تعارض كبير بينهما بحيث يستحيل تقاربهما فالدين المنزل من قبل اللّه تعالى والذي يؤمن بصراط مستقيم واحد حق ويرى لنفسه من الحقانية إلى حد ضلال كل سبيل غير الدين فهكذا دين هل يمكن ان يرضى بالمساواة بينه وبين غيره في الحقانية؟ ام هل يقبل التعددية مع ايمانه بصراط مستقيم واحد؟

غير انه نقول انه يوجد تفصيل في المسألة ومحصله ان الدين بأعتماده على العقل يرفض ان تكون آراء عدة ومتضاربة وكلها متحدة ومتساوية في الحقانية فالعقل هو الذي حكم بأن النقيضين لايجتمعان ولا يرتفعان فهل يمكن لآراء متضاربة أن تكون لها من وجهة نظر معرفية ابستمولوجية - مرتبة واحدة في الحقانية؟ طبعا العقل يأبى ذلك والدين تبعا للعقل يرفض ذلك أيضا غير ان الدين وإن رفض ذلك معرفيا - ابستمو لوجياً إلا أن في مجال الممارسة وعلى الساحة الاجتماعية نجده يقبل ذلك فالدين في زمان الرسول رضي أن يكون كغيره من الأديان المطروحة وبالاعتماد على قوة منطق وعقلانية الدين اكتسح أصحابه بقية الساحات الدينية الأخرى، فقد كان المطلب الأول والأخير للرسول(صلى الله عليه وآله) ان قال «خلو بيني وبين قومي» فالدين اذا يقبل بالتعدّدية وبطرح جميع الآراء على الساحة من دون قمع او إلغاء أي فكرة لأن الدين يتمتع بقوة ذاتية تكسب عقله ومنطقه أحقية تنفي جميع الأحقيات والمصداقيات الكاذبة الأخرى.

- البرلمان: اذا ننظر إليه كهيئة استشارية تساهم في صناعة القرار وتحافظ على حقوق الشعب فهو أمر مطلوب في ذاته ولا يرفضه الدين بل إننا نرى في الدين أمثلة لهذا فأجتماع أهل الحل والعقد يضطلع بنفس المسؤوليات الملقاة على عاتق البرلمان ولكن مع هذا التماثل يوجد خلاف جوهري في المسألة فالدين يرفض أن يكون البرلمان هو مقياس الحق والباطل، فالمبنى السائد داخل منظومة المجتمع المدني ان الحق يدور مدار مصلحة الشعب وضرره في حين انه في الدين يعتبر للحق صفة واقعية ليست من سنخ الاعتباريات تنتظر الإجماع بل هو حق في نفسه وجد الإجماع أم فقد، فإذا كان الحق كذلك فلا جدوى للتصويت في البرلمان لتبيان الحق وهنا ينتفي دور البرلمان في الدين من هذه الجهة ولكن اذا لم يكن مدار التصويت في البرلمان على الحق والباطل بل كان لأمر يخص دنيا الإنسان فبقرينة الآية الشريفة: (وأمرهم شورى بينهم) قد يكون للتصويت نوعاً من الواقعية لجمع الآراء والأختلافات، الأمر الذي نراه اليوم دائراً في الأنظمة التي تعتبر نفسها إسلامية، وخلاصة القول هنا ان البرلمان من جهة تعبيره عن صوت الشعب وكونه قوة مؤثرة في قرارات الدولة فهو امر مطلوب دينياً ولكن من جهة انه مدار للحق والباطل فهذا على نحو القضية الكلية أمر مرفوض بل المقبول هو الجزء من القرارات التي ترتبط بحياة الإنسان واختياراته فهنا الواقع والضرورة تفرض أن يكون البرلمان هو مدار القرار.

نتيجة البحث

بعد المقايسة بين الدين واهم مفردات المجتمع المدني نخلص إلى هذا القول ان بين الدين والمجتمع المدني تداخلاً في بعض الجوانب واختلافاً في جوانب أخرى وهذا الإختلاف والتباين يرجع إلى كون الدين أمر حامل لنظام انساني كامل لا أقل حسب رؤيته يعالج حياة الإنسان في مختلف توجهاتها في حين ان المجتمع المدني مع التأمل في ظروف نشأته وبعض مرتكزاته انه حالة انفعالية تجاه وضع معين في القرون الوسطى في اوروبا وإن حاول ان يتكامل في تاريخه إلا أنه يبقى من صنيعة الانسان الأمر الذي يجعله مخالفاً نوعا ما للدين.

خاتمة البحث

لقد فصّلنا في هذا البحث أهم مفاصل العلاقة بين الدين والديمقراطية فوجدنا ان النتيجة هي أن الدين الاسلامي لا يمكن بحال من الأحوال مطابقته بالديمقراطية ولا الديمقراطية كذلك غير أنه يمكن التلفيق بينهما بتغيير بعض تعريفات كل من الدين أو الديمقراطية، وما يمكن استنتاجه أيضا ان الدين قد يقبل أن يعيش أجواء الديمقراطية مع غيره من الأفكار وله أن يواجهها بماله من قوة فكرية ودعامة معنوية فقد يصل ويفرض نفسه على الباقي بأحترام القواعد الديمقراطية.

ملخص الكلام هنا ان الدين وان استفاد من بعض الاشكال والتعابير والاركان الديمقراطية في تاريخ مسيره ولكنه رغم ذلك لا يمكن المزج بينه وبين الديمقراطية أو نعته بالديمقراطية فالنظام الديني الاسلامي هو نظام جديد من نوعه يختلف مع الديمقراطية في كثير من فصوله وأصوله وان كان يتحد معها في بعض جوانبها.

 

الهوامش:

 

([1]). خطبة 105. 

([2]). خطبة 127.

([3]). خطبة 205.

([4]). عهد علي بن أبي طالب لمالك الاشتر.

([5]). عهد علي بن أبي طالب لمالك الاشتر.